دروس فضيلة الشيخ

الصحابة والإمامة_ الدرس الخامس

الدرس الخامس

بِسْم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهُداه.

أما بعد: فهذا الدرس الخامس من دروس برنامج التأصيل العلميّ، والحديث هنا عن ذكر بعض القواعد الشرعية التي استُفيدت من النصوص والأدلة وقواعد الشريعة وذلك في الردّ على المخالفين في مسائل الإمامة مع الردّ على أهم شُبهاتهم.

ومن أعظم، بل هو أعظم قاعدة للمسلم أن يتمسك بالنصوص الشرعية ويجعلها هي الحكم، ويكون التحاكم إليها ويطّرح جميع الأهواء والآراء والاستحسانات التي يستحسنها بعض الناس حتى لو كان بعضهم عنده علم أو ينتسب إلى السنة؛ إذا غلط في بعض المقامات فيجب الإعراض عنه والتمسّك بعموم النصوص الشرعية، ومن تلكم النصوص الشرعية الواضحة قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} ومثل ذلك قوله --صلى الله عليه وسلم-لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه «ولو أن تعضّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» في قوله: «فاعتزل تلك الفرق كلّها» فهذا الدليل على عدم الاستثناء لأيّ طائفة، فلا تقاتل مع أي طائفة في حال الفتن وزوال الإمام. أما إذا وُجد الإمام حتى لو كان على نقص وعلى منكر فإنه يكون المسلم معه، أما إذا زال الإمام والعياذ بالله وزالت الجماعة فيبتعد عن هذه الأمور ويسلم دينه، ومثل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» وقوله صلى الله عليه وسلم: «حتى تلقوني على الحوض» هذه قاعدة عظيمة وهي المدة المحددة للصبر؛ فإن بعض الناس يقول: الصبر له حدود، الصبر له أمد فإلى متى نصبر ؟

فقد بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم-بيانًا واضحًا شافيًا كافيًا لمن أراد النجاة أن يتمسّك به، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض»؛ يعني يوم القيامة، فاصبر حتى تخرج من هذه الدنيا وأنت على السنّة وعلى الجماعة، وقوله أيضا في الحديث نفسه «أَثَرة» وقد شرح العلماء المراد بالأثرة بأنها الاستئثار بأمور الدنيا دون الرعية، وهذا يشمل الأموال والأراضي والمزارع والحقوق وهذا مصرح به في أحاديث كثيرة فيها الرد على من يريد إدخال هذه الأمور في المسوغات للخروج، والنبي -صلى الله عليه وسلم-أمر بالصبر، وفي أمره بالصبر -صلى الله عليه وسلم-دليلٌ على أمرين:

الأول: أن الصبر يقتضي ترك الخروج وترك إثارة الفتنة، والصابر هو الذي يصبر على الدين كالذي يمسك بالجمر.

الثاني: من فوائد قوله "اصبروا" هو ترك الرضا بالمعاصي والذنوب والظلم الذي يقع من الحكّام.

فالأول؛ ترك الخروج هو ردٌّ على الخوارج، والثاني؛ ترك الرضا بالمعاصي ردٌّ على المرجئة وردٌّ على المداهنين والمنافقين للحكام، فلا تكن مع هؤلاء ولا تكن مع هؤلاء؛ لأن الصبر يقتضي أن الشيء المصبور عليه مكروه للنفس، فكون وليّ الأمر أو الحاكم يقع في معاصي هذا شيء مكروه للنّفس، أو كونه يقع في الظّلم هذا شيء مكروه للنفس فلا ترضَ به، وهذا فيه الردّ على من يرضى بهذه الأمور أو يُقرُّها ويمدحها – نسأل الله العافية والسلامة-.

هذه قاعدة عظيمة في الإمامة وهي التمسّك بالنصوص الشرعية وجعلها هي الحكم ويكون التحاكم إليها مع إطّراح الأهواء والآراء والاستحسانات التي يقع فيها بعض الناس.

ومن القواعد الشرعية في مسائل الإمامة أن مفارقة المسلمين أول ما يقع الإنسان فيها يقع في شيءٍ يسير، ثم يتسع عليه الأمر ويزداد، وتزداد الفُرقة والشُّذوذ وبعد ذلك تنفتح عليه أبواب الفتن،

والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة شِبرًا فمات فميتته جاهلية» فالشبر هو مسافةٌ قصيرةٌ جدًّا في الحسابات؛ فهناك أمتار وهناك فراسخ وهناك ما هو أوسع من ذلك، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر الشّبر، وهذا ملاحَظ؛ أنّ كل من خرج عن جماعة المسلمين وإمامهم في أمرٍ يسير يزداد عليه الأمر ثم يكون من أشدّ الناس فتنةً – نسأل الله السلامة والعافية -، ثم يكون حاله أن يموت ميتةً جاهليّة.

ولهذا كان بعض الناس يتساهل في بعض المقولات وفي بعض العقائد ويقول هذه أفكار وهذه رؤى وهذه تصوُّرات من بعض طلبة العلم ومن بعض الناس، فيمرّرُها على قلبه ويقبلها وينشرها ولا يدري أن فيها السمّ النّاقع عليه وعلى من تأثّر به.

فهذه قاعدة مهمّة وهي أن نعرف أن المفارقة لجماعة المسلمين أوّلُ ما يبدأ فيها الإنسان يبدأ بشيء يسر ثم يتّسع عليه الخرق وتتسع عليه الفتنة ويدخله الشيطان مداخل عظيمة وربّما يكون مآله إلى الردّة عن الإسلام، وهذا وقع كثيرًا كثيرًا؛ فبادئُ أمره أراد الغيرة على الدّين وأراد الغيرة على الإسلام، وآخر أمره وقع في الخروج عن الإسلام، وهو لو قيل له في أوّل أمره أنك بهذا سوف تخرج وتموت ميتةً جاهليّةً أو تموت على غير الإسلام لخاف خوفًا شديدًا؛ كيف أترك الإسلام ؟ وكيف كذا... فيا سبحان الله ! هذا كثير، حتى ذكروا عن ابن الأشعث؛ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث شيئًا من هذا وأنه لحق بالكفّار، واليوم نرى من يسمّون أنفسهم بالمعارضين؛ تجد بعضهم أول أمره قبل عشرات السنين لمّا كان شابًّا كان طالب علم وكان عابدًا، ثم بدأت هذه الأمور تدخل عليه، ثم بدأ بالاعتراض ثم تجمّع حوله بعض الناس، ثم أغرى نفسه ببعض الأشياء، ثم زيّن له الشيطان بعض المقولات، ثم وثمّ... حتى هرب من ديار الإسلام إلى ديار الكفر، وصار يبُثُّ سمومه هناك، وبعضهم يعلن محبته للرافضة ومحبّته لغلاة الصّوفيّة ويدافع عنهم، وبدأ يظهر عليه علامات البدعة والزّيغ – نسأل الله العافية والسّلامة -.

فهذه قاعدة عظيمة في مسائل الإمامة.

أيضًا من القواعد؛ رقم ثلاثة؛ أن نقول: إن الإمام الذي يُبايَع وتكون له البيعة هو الذي يحصُل به المقصود شرعًا، والمقصود شرعًا من الإمامة هو: انتظام أمور الدّولة وأمور عموم المسلمين، وانتظام أمور الدّولة وأمور عموم المسلمين لا يكون إلا بحاكمٍ أو ملِكٍ أو إمامٍ أو أميرٍ يجتمع الناس عليه لقوّته ولشوكته أو لقبول الناس له أو نحو ذلك، فيكون يحصل المقصود بالإمام، والمقصود بالإمام تحقُّق المصالح؛ مثل: حفظ الحدود وحماية الثّغور، وتحقيق الأمن وبسطه في البلد، وإقامة الشعائر، ونحو ذلك مما فيه مصالح الدِّين، ومصالح الدّنيا أيضًا؛ مثل قيام البيع والشراء، وأمن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وقيام أسواقهم ونحو ذلك...

أما الذي لا تحصل به الشوكة ولا يحصل به المصالح فهذا ليس بإمام حتى ولو اجتمع عليه عصابةٌ؛ مثال ذلك: لو أن طائفةً من أهل البغي أو الخوارج أو قُطّاع الطريق اجتمعوا عشرة أو عشرين أو مائة.. ثم رأوا أن واحدًا منهم هو أميرهم ثم قالوا للناس بايِعوه، ولكن هؤلاء ليس لهم شوكة وليس لهم غلبة، فهذه بيعة باطلة وهذا إمام لهم لكنّه ليس بإمام للمسلمين، هؤلاء عصابة إجرامية وليسوا لهم شوكة على عموم المسلمين وقوّة.

وعلامة الشوكة والغلبة والقوّة هي انتظام أمور الناس تحت ذلك الإمام، أما هؤلاء فهم عصابات يدخلون القرى متستّرين كالنّساء ويفتكون ببعض الناس ثم يهربون، ثم يختبئون في بعض البيوت كأنهم أناسٌ عاديّون لا دخل لهم ويقولون لم نسمع، لم نرَ ولا ندري عن شيء... ثم إذا سنحت فرصة رجعوا إلى سالف عهدهم... هؤلاء لا تحصل بهم الإمامة وهؤلاء خوارج أو قطّاع طرق أو محاربون؛ عصابات إجرامية، فلا يلتبس أمر هؤلاء بأمر الإمام الذي يجتمع عليه الناس وله الشوكة والغلبة.

كذلك يُفهم من هذا بطلان ما عليه الرافضة حيث يظنون أن الإمام المعصوم هو الإمام المنتظر، والإمام المنتظر هو غائب – يسمونه غائب الآن؛ لم يخرج بعد – فكيف تتعلق أمور الدين وأمور الدنيا ومصالح العباد بأمرٍ معدومٍ لا يُدرى عنه من مئات السِّنين، هذا من المسائل التي تدلّ على قلّة عقولهم وخسارة صفقتهم – نسأل الله العافية والسّلامة – فهم أضاعوا الدّين وأضاعوا الدنيا.

هذه المسألة الثالثة قاعدة كبيرة؛ وهي أن الإمامة تحصل بمن تقع به الشوكة والغلبة، وهذا يكون باجتماع الناس عليه، أو بولاية العهد، ثم مبايعة الناس له، أو يحصل هذا بتغلّبه وقهره للناس بسيفه فيجتمع الناس عليه بقوّته وشوكته، فعلم أن الإمام المنتظر أو الغائب أو المعدوم أو الهارب الذي يختفي في الكهوف والعصابات الإجرامية؛ هؤلاء لا يُعتبرون أئمة ولو أن جماعتهم تعاونوا على ذلك فإنهم لا شوكة لهم ولا غلبة لهم.

الأمر الرابع: من القواعد التي يُستفاد منها في باب الإمامة وفيه الردّ على المخالفين: بطلان البيعات السرّيّة وبطلان البيعات البِدعيّة، والبيعة فوق بيعة إمام المسلمين وولي أمر المسلمين بيعةٌ باطلة ومُنكَرة سواءٌ قيل إنها تختص بأمور الدّين أو تختص بأمور التّربية والسلوك والزّهد، أو أنها تختصّ بأمور التعليم...فنقول: لا، لا يجاز أن تقام بيعة مهما كانت مسوّغاتها، لأن البيعة معناها أن يعطي المُبايِعُ المُبايَعَ السمع والطّاعة على تنفيذ جميع الأوامر، ولو قال في غير معصية الله فإن هذا ليس لأحد إلا لولي الأمر العامّ، أما المدرّس في مدرسته فإن من حقوق المُدرِّس على طلابه هو الاستجابة لأوامره؛ حل الواجبات والانتباه للدروس، والمذاكرة الجيّدة، وهو المسؤول عن أنّ هذا أتقن أم لم يُتقن، نجح أم لم ينجح.. فهو له حدود فقط صلاحيّات محدّدة، وكذلك إمام المسجد له حدود وصلاحيّات، وكذلك المُربّي للأولاد له حدود وصلاحيّات، فلا يجوز أن يؤخذ على الناس من قِبل هؤلاء البيعة العامّة ولا السمع والطاعة المُطلقين.

وأقرب ما يكون لوجوب السمع والطاعة في الإنسان والدَاه؛ فالوالدان – الأب والأمّ – لهما حقٌّ عظيم على ولدهما، فالولد يجب عليه أن يبرّهما ويستجيب لأوامرهما، وبهذا يُعرف أن هذه ليست بيعة، وليس معنى هذا أن يبايع الناس لرجلٍ واحد كل.. لكن كل واحد يبرّ والديه، فعُلِم بطلان أن يُبايَع لشخص بالسمع والطّاعة لغير وليّ الأمر.

ويتبع هذه القاعدة الرابعة أن يُقال: كذلك بطلان ما يقوم مقام البيعات التي تفعلها الجماعات أو التنظيمات السرّيّة لأن بعضها – يعني – تنظيمات علمانية أو شيوعيّة أو ليبرالية أو تنظيمات حزبية كالإخوان والتّبليغ والتحرير أو غيرهم؛ كالفرق والطّرق الصوفية.. فكلّ ما كان فيه بيعاتٌ والتزاماتٌ وعهودٌ وعقودٌ تُلزم الأتباع بالسمع والطّاعة على الاتباع للمقابل أن هذا له شأن ...لا.

أما ما يتعلّق بالأعمال التي تكون تابعة للحكومة أو الأعمال الخاصّة الخيرية أو التجارية فهذا العقود التي تجري بين الناس هذه عقود خاصّةٌ بالعمل وبمقدار العمل فقط، مثال ذلك: جمعيّة البرّ، جمعيّة تحفيظ القرآن وجماعة رحمة الأيتام وجماعة الإحسان للفقراء أو المرضى...؛ فالموظفون في هذه الجمعيات أو الجماعات ليس عندهم هناك اعتقاد معيّن تجاه رئيس الجماعة وليس عندهم هناك أصول دينية، وإنما التزامهم بالعمل مقابل الأجرة والمكافأة. بالتالي فلا يكون هذا مثل هذا،

أما التي نحن بصددها هي البيعات التي فيها السّمع والطّاعة لأجل العقيدة أو لأجل الفكرة أو لأجل الدين، وأيضًا يكون السمع والطّاعة في خارج أوقات العمل، بخلاف ما سبق ذكره فإنه فقط في أوقات العمل، فهؤلاء – المبتدعة – يسمعون ويطيعون لرؤسائهم سرًّا في خارج العمل وفي وقت العمل، وأيضًا هم يريدون بهذه التنظيمات المناوأة ولو لم يصرّحوا بذلك.

فمما يتبع أيضًا لهذا؛ نقول قاعدة خامسة: تحريم التحزُّب والتّعصّب والولاء والبراء على شيخ أو على حاكم أو على مذهب أو على طريقةٍ أو على اسمٍ أو على غير ذلك... فالولاء والبراء يكون لله ولرسوله، والموالاة والمعاداة تكون بحسب ما أتى بالدّين، وولي الأمر يُوالى في الله ويُسمع له ويطاع في غير معصية الله، أما إذا وقع في معصية فلا يأتي هذه المسلم، لا يأتي هذه المعصية ويكره هذه المعصية لكن لا ينزعنَّ يدًا من طاعة، لا ينزعنَّ يدًا من طاعة لذلك الأمير الذي وقع في معصية.

فهذا التحزّب والتعصّب للجماعات هو بوّابة للخروج وشقّ العصا، لأنه عندما تقوى هذه الأمور وتشتدُّ يصبح الولاء والبراء على الجماعة أو على الشخص أو على الطريقة ونحو ذلك؛ هذا من أسباب الفتن، والله سبحانه وتعالى يقول {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}؛ {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

فالعصبيّات الجاهليّة والتّحزُّبات البدعية أو التحزّبات الليبرالية أو العلمانية أو الشيوعية أو غيرها كلها خطر على المسلمين فيجب اطّراحُها. فهذه مسألة كبيرة، والله عز وجلّ بين في القرآن تحريم التفرّق في الدين {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} وقال تعالى – في شأن المشركين -: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.

   أيضا دلّت السنة على تحريم التحزُّبات والنهي عنها، والنبي -صلى الله عليه وسلم-قال: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» والنبي -صلى الله عليه وسلم-قال «وإن هذه الأمة ستفترق على بضعٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال «ما كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي».

والسادسة من القواعد في مسائل الإمامة: أن الشذوذ العلميّ عن أقوال أهل السنّة والجماعة من أسباب الفتن، فالشذوذ بالأقوال والآراء التي ليس عليها أهل السنة والجماعة ولم يقل بها إمام من أئمة السّنة هذا من أسباب الفتن، ولهذا نجتنب الشّذوذ والخلاف والفرقة.

والشذوذ يكون عند بعض الناس؛ يأخذ المسائل الشاذّة ويشتهر بها وينحاز بها عن جماعة المسلمين أولا في الأمور العلميّة ثم يتبع ذلك الأمور العمليّة، ولهذا هذا من القواعد التي تُحفظ بها الإمامة؛ ترك الشّذوذ وموافقة جماعة المسلمين؛ قال الله تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }  وقال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

القاعدة التي بعد هذا وهي: أن من أسباب لزوم الإمامة وحفظها: المحافظة على الجُمع والجماعات والتمسّك بالوحي على فهم السلف الصّالح ؛ فالمحافظة على الجُمَع والجماعات شعارٌ عظيم يعلنه علماء السّلف في كتب العقائد ليبيّنوا أن هذا من أعظم أسباب حفظ الإمامة وحفظ الجماعة، أما ترك الجُمع وترك الجماعات فإن هذا من أعظم أسباب الضلال والوقوع في الفتن والوقوع في الهلاك العظيم، ولهذا كثيرٌ جدّا من أهل البدع أوّل ما تبدأ بالبدعة أنّه يوغَر صدره على المسلمين ثم يوغر صدره على الأئمة الذين يصلّون بالناس ويخطبون خطب الجمعة ويرى عدم صحة الصلاة خلفهم أو يُشكّك فيها أو يزهد فيها ثم ينعزل ويصلّي وحده ولا يصلي الجُمع ولا يشهد الجماعات، ثمّ يتسلّل إليه عدوُّ الله؛ الشيطان حتى يقع فيما لا تحمد عقباه من الآراء الفاسدة ويكون حربًا على الإسلام والمسلمين – نسأل الله العافية والسلامة -.

ولهذا عثمان بن عفّان رضي الله عنه لمّا كان محصورًا في الدّار من قبل تلك الفئة والطُّغمة الخبيثة الذين جاءوا للاعتراض على عثمان رضي الله عنه ثمّ كان آخر أمرهم أن قتلوه شهيدًا – رضي الله عنه وأرضاه -، لكن فيه مسألة وقعت؛ وهي أن رجلًا سأل عثمان – وهو محصور لا يستطيع أن يصل إلى المسجد؛ قد أغلقوا عليه الباب – وكان رجلٌ من هؤلاء الخوارج الذين بغوا على عثمان كان يصلّي إمامًا بالناس في المسجد النبوي، فجاء رجل يستفتي عثمان وقال: يا أمير المؤمنين، إنّك إمام عامّة وهذا إمام فتنة؛ هل نصلّي خلفه ؟ فقال عثمان بن عفّان رضي الله عنه: «يا ابن أخي، إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم».

الله أكبر ! رضي الله عن عثمان.

مع أن هؤلاء هجموا لإيذائه وقتله، وتسبّبوا بقتله، إلا أن هذا لم يمنع أن يقول الحقّ في مسألة الصلاة خلف أئمة الجَوْر. ولهذا من القواعد الكبيرة والعلامات الشهيرة هي: لزوم الجُمع والجماعات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية عن أهل السنّة والجماعة: "ويرون إقامة الجُمع والجماعات والحجّ والجهاد والأعياد مع أمراء المسلمين أبرارًا كانوا أم فجّارًا "

وقد عُلم من واقع حال كثير من الخوارج في زمننا هذا أنهم أول أمرهم أساؤوا الظنّ بالأئمة والخطباء وبدأوا يشككون في صحة الصلاة خلفهم ثم انحازوا وصاروا يصلّون وحدهم أو يصلّون جماعات مع بعضهم كما كان الخوارج الأولون؛ انعزلوا عن المسلمين في العراق في قرية اسمها الحروراء وفي الجبّانة في الصحراء وكانوا ينعزلون دائمًا ثم كان آخر أمرهم أن خرجوا على علي رضي الله عنه فحدثت الوقعة التي نصر الله عليًّا على الخوارج والحمد لله  رب العالمين.

كذلك؛ من القواعد المهمة في مسألة الإمامة أن نعرف أن المعارضين في هذه المسائل من الخوارج ونحوهم غرضهم هو تقديم الدنيا على الدين واستيلاء المادّة عليهم، فلما قدموا الدنيا على الدّين واستولت عليهم المادّة وحبّ الدنيا والرغبة فيها وقعوا فيما وقعوا فيه، ولهذا عليٌّ رضي الله عنه لما قيل له عن الخوارج قال " ما يقول هؤلاء ؟ " قالوا: يقولون لا حكمَ إلا لله. فقال – رضي الله عنه -: "الحكم لله، وفي الأرض حُكّام ولكن هؤلاء يقولون لا إمارة " – " ولكن هؤلاء يقولون لا إمارة "  - فتفطّن رضي الله عنه إلى أن هؤلاء يريدون الحصول على الإمارة، ثم قال: " وليكوننّ في آخرهم ألصاصًا جرّادين " يعني قطّاع طرق؛ هؤلاء يكون في آخرهم قطاع طرق – نسأل الله العافية والسلامة -.

ومن الأقوال في هذا المقام من علمائنا المعاصرين الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في فتاوى الشيخ في عنوان الجمهورية ورئاسة الجمهورية؛ قال: " ليست شرعية، هذه باطلة خلاف المحمدية " ثم قال: " هذه خلاف الصحابة وما عليه المسلمون، هذه فرنجية محض، العجيب أنه يوجد عند كثير ممن عندهم خفّة إسلام يوجد عندهم هذا؛ يقولون: استبداد.. استبداد "

قال الشيخ: " سيحاسبهم ربّهم ولو استبدّوا – يعني الحكام الذين يسبونهم؛ يقولون إنهم مستبدون – " الشيخ قال " سيحاسبهم ربّهم ولو استبدّوا " ثم قال الشيخ: " في زمن الصحابة من هو يؤم وهو شارب خمر، هذا الجهل أكبر جهل؛ الجهل بالأمور الكليّة، ثم (...) يؤم الناس صغارهم وكبارهم، فإنها نعمة دنيوية أو عدم " يعني الولاية الشرعية والحكم ووجود الدولة نعمة دنيوية؛ إذا لم توجد هذه النعمة ماذا يحصل ؟ عدمٌ محض وشرٌّ عظيم، ثم قال " لا يدخلها إلا على أصول الخوارج والمعتزلة " يعني من ينادي بالجمهوريات والديمقراطيّات ويحارب الملكيّات، يقول " لا يمكن أن يدخل هذه المسائل إلا إذا وافق أصول الخوارج والمعتزلة. ثم قال " ثم التكلّم في الاستبداد دائما دخّرتها الإفرنج، ثم تجد في البلدان التي تنتسب إلى الإسلام إذا نسب عنه أنه قطع اليد في السرقة قالوا: وحشية.. وحشية. ويطعنون بالاستبداد وبالأموال، هم لعبوا بالدّين والعقائد والنشء كل ملعب، لكن من أجل استيلاء المادّة عليهم " – " من أجل استيلاء المادّة عليهم " -.

فهذا يبين أن هؤلاء أهملوا مسائل التوحيد، أهملوا مسائل التحذير من الشرك، أهملوا أشياء كثيرة، ولكن السبب هو استيلاء المادّة عليهم والطّمع في الدنيا والطمع في الأموال؛ وهذا شيء خفيّ حتى لو لم يظهر من الخوارج؛ بعض الناس يقول: نعرفهم بالتقوى، نعرفهم بكذا... نقول هذا شيء خفيّ فلا بد أن تنتبه للمآلات كما انتبه عليٌّ رضي الله عنه وكما انتبه علماء أهل السنة والجماعة.

 

أيضا، من القواعد الكبيرة في مسائل الإمامة أن القدح في معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه وفي توليته لابنه يزيد هو من سوء الظنّ وهو مما يعتمد عليه غالب المفتونين في هذه المسائل؛ غالب المفتونين؛ سواء ممن ينتسب إلى الأحزاب الإسلامية أو من ينتسب إلى الأحزاب الليبرالية والعلمانيّة وغيرهم.. ناهيك عن الرافضة والزيدية والمعتزلة والإباضية؛ غالب من يقدح في معاوية رضي الله عنه يعتمد في ضلالته على هذه الآراء الفاسدة في الخروج، فنظرًا لأنهم يقيسون الأمور بعقولهم ويستحسنون بأهوائهم وآرائهم فإنهم يلومون معاوية وينتقصونه، وبعضهم يضمر في قلبه شيء ولا يتكلّم، وبعضهم يتكلّم بكلمة بنحو أنه أساء؛ أن معاوية أساء ونحو ذلك... وبعضهم يزيد فيقول إن معاوية وقع في النفاق والاستبداد والظلم وأنه أول من فتح باب الشر على المسلمين وأن معاوية كذا وكذا.. ومن هنا كثُر كلام السلف الصالح والأئمة في بيان أن من قدح في معاوية رضي الله عنه أنه ضالٌّ مضِلّ، أنه ضالٌّ مضِلّ، وأنه  كما قال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: " معاوية سترٌ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كشف الستر تجرأ على ما وراءه " وكما قال الإمام أحمد: " مالهم ولمعاوية ؟! " فكما قال بعض السلف: " لغبارٌ دخل أنف معاوية في غزوة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-خير من عمر بن عبد العزيز رحمه الله "

وهؤلاء الذين يقدحون في معاوية رضي الله عنه لا يدرون أن معاوية رضي الله عنه صحابيٌّ جليل اجتهد في هذا الأمر غايةَ الاجتهاد وعُرف بالعدل وعُرف بالحلم وعرف بالكرم وعرف بمحاسن الأخلاق، ولا يمكن أن يكون اختياره لابنه يزيد لولاية العهد إلا لمصلحةٍ رءاها تحقق الأمن والاستقرار لبلاد المسلمين، وليس مقصوده هو الطمع كما يزعم بعض هؤلاء أو تأسيس الدولة الأموية؛ فإنه لا يعلم الغيب، فإن معاوية لا يعلم الغيب رضي الله عنه. والدليل على ذلك أن يزيد لما توفي وتولى ابنه معاوية عدة أيام وتوفي معاوية لم يستقم الأمر لأحد؛ لا لبني أمية ولا لغيرهم، بل جلس الناس في فوضى عارمة عدة سنوات حتى اجتمع الناس على عبد الملك، كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في الحجاز - نادى لنفسه -، ووثب المختار في العراق وغيره... وهكذا صارت الفتن في بلاد المسلمين بعد وفاة يزيد. فهل هذا الأمر يعلمه معاوية ؟ ويعلم أنه ستكون هناك دولة أموية إلى سنة ١٢٨ ؟! الأمر غيبي.

فهم أرادوا القدح في معاوية لأنه في نفوسهم هذه الاستحسانات وهذه الأهواء. ولهذا يجب الحذر من الكلام في معاوية رضي الله عنه.

ثم نقول: إن ثبت عن معاوية رضي الله عنه يعني ما يحاول بعضهم أن يتهمه بأشياء، فنقول لهم إن عثمان رضي الله عنه وهو خليفة راشد شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم-بالجنة وشهد له النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه من الخلفاء الراشدين وكذلك ابن عمر ؛ روى ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن عمر قال: " قال لي عثمان وهو محصورٌ في الدار: ما ترى فيما أشار به علي المغيرة بن الأخنس ؟ " قال ابن عمر: " قلت: ما أشار به عليك ؟ - ما الذي أشار به عليك - قال : إن هؤلاء القوم يريدون خلعي - يعني خلعي من الخلافة - فإن خلعتُ تركوني وإن لم أخلع قتلوني " يقول عثمان رضي الله عنه هؤلاء يريدون أن أخلع نفسي من الخلافة وأعطيها؛ هم يختارون، فإذا خلعت نفسي تركوني وسلمت وإن لم أخلع نفسي قتلوني، قال ابن عمر: " قلتُ: أرأيت إن خلعت تترك مخلّدا في الدنيا ؟ " يعني لو خلعت نفسك من الخلافة هل تخلّد في الدنيا ؟ فقال عثمان: لا. فقال ابن عمر: " فهل يملكون الجنة والنار ؟ "  قال عثمان: لا. فقال ابن عمر : " أرأيت إن لم تخلع هل يزيدون على قتلك ؟ " قال عثمان: لا. " قلت: - يعني قال ابن عمر -: فلا أرى أن تسُنّ هذه السنة في الإسلام؛ كلما سخط قومٌ على أميرهم خلعوه. لا تخلعْ قميصًا قمَّصكهُ الله "

هؤلاء الصحابة الأجلاء يريدون الخير للمسلمين ويريدون المصلحة للمسلمين والواجب حسن الظن بهم. 

فمن بلايا هذه الطرق والأحزاب التي انحرفت أنهم يأخذون أخبارا غير موثقة أو أحداثا لم يعرفوا القرائن المحتفة بها ثم يسيئون الظن بالصحابة، ولهذا صار القدح في معاوية أو الكلام في معاوية  أو غيره من الصحابة علامة على الزيغ في مسائل الإمامة.

هذه القاعدة مهمة جدا وهي تدلنا على وجوب حفظ حق الصحابة جميعا واحترامهم وحفظ مكانتهم وأن لا يكون في قلوبنا ولا في ألسنتنا ولا في أقلامنا إساءةٌ لأحد من الصحابة كائنا من كان فرضي الله عن الصحابة أجمعين .

القاعدة التي بعد هذا أن من وسائل الأعداء والمنحرفين وأهل البدع في تحقيق مآربهم هو المطالبة بالتعددية الحزبية أو التعددية السياسية والمراد بالتعددية الحزبية أن يسمحوا بوجود الأحزاب؛ أن يسمح الحاكم بوجود الأحزاب؛ حزب كذا وحزب كذا وحزب كذا.. أو  يسمون التعددية السياسية، وهذا سواءً كانت هذه الأحزاب دينية أم كانت علمانية أم كانت الأحزاب وطنية أم كانت هذه الأحزاب لأي نوع من الأنواع.. هذا في الحقيقة يفضي إلى الخروج على ولاة الأمور ويفضي إلي الفتن، وهذا مطلب كبير  عند الجماعات الليبرالية والتيارات العلمانية فضلاً عن المنحرفين من الجماعات التي تسمي نفسها إسلامية وهي جماعات حزبية إما إخوانية أو حزب التحرير  أو غيرها من الجماعات المنحرفة.

 فالحل أن ولي الأمر يأخذ الرأي من كل أحد عنده رأي  جيد، لكن ما يكون هناك حزب  يوالي و يعادي عليه كل واحد من أفراد المجتمع، هذا يفضي إلى تنازع أفراد المجتمع واضطراب أمر المسلمين.   

هذه بعض القواعد التي يجب يعني المسلم أن يحفظ حق الإمامة وينتبه ويحذر من أسباب والغلط. ونسأل الله جل وعلا أن  يهدينا وإخواننا المسلمين إلى صراطه المستقيم.

وبعد هذا نأخذ موضوع الجماعة .

فالجماعة هي: ما جاء في الأحاديث مثل حديث حذيفة " تلزم الجماعة المسلمين وإمامهم " وكذلك  قوله -صلى الله عليه وسلم-" من فارق الجماعة قيد شبر  مات ميتة  الجاهلية " وفي نفس الحديث  قال " من فارق السلطان شبرا مات ميتةً جاهلية " ولهذا بين  العلماء رحمة الله عليهم أن الجماعة وردت في النصوص على نوعين وكلاهما حق:

  • الأول جماعة الأبدان أو جماعة السلطان: والمراد بها لزوم السلطان بالسمع والطاعة له والانقياد وترك الشذوذ وترك شق العصا وترك مذهب الخوارج وخلع البيعة ونحو ذلك؛ هذه تسمى جماعة الأبدان، طبعا هذا مقيد في غير معصية الله عز وجل " فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".

هذه الجماعة هي المعنى الأول لأن حديث حذيفة قال " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " وحديث ابن عباس " من فارق الجماعة شبرا "؛ هذا يدل على أن المراد السلطان وولي الأمر. هذا المعنى الأول.

  • والمعنى الثاني للجماعة وهو المراد قطعًا جماعة الدين: جماعة الدين، ولهذا بعضهم يقول للأول جماعة العملية والثاني الجماعة العلمية؛ جماعة الدين يعني الإلتزام  علميا بالشريعة ولزوم عقيدة السلف الصالح ومنهاج الصحابة في كل أمور الدين.

 فإذا الحاكم ولي الأمر عقيدته صحيحة ويدعو إلى العقيدة الصحيحة حينئذ اجتمع  في هذا الحاكم وفيما يدعو إليه الجماعتان، ويكون لزوم الجماعة لزوم السمع والطاعة له هذا لزوم الجماعة، وأيضا الاستقامة على العقيدة الصحيحة عقيدة السلف الصالح و الثبات عليها هذا من لزوم الجماعة.

وإذا كان الحاكم على بدعة وعلى ضلال مثل أن يكون الحاكم علي عقيدة المعتزلة كما حصل في بعض الأوقات في عصر الإمام أحمد؛ فالمأمون ومن بعده اثنان كلهم على عقيدة المعتزلة وحكموا الناس، فحينئذ لزوم الجماعة الأول لزوم جماعة الأبدان بلزوم السلطان حتى لو كان  عقيدته فاسدة كما فعل الإمام أحمد رحمه الله مع الخليفة العباسي. لكن لا يتابعه في بدعته ولا يوافقه على باطله، هذا إذا كان الحاكم على بدعة.

 وقد يكون المسلم أيضا خارج البلاد الإسلامية كأن يكون مقيماً في بلاد غير إسلامية وحاكمها حاكم غير مسلم  فيلزم جماعة الدين، فإذا كان الحاكم على البدعة فإنه يعني يسمع له ويطاع ولكنه لا يوافق على بدعته ولزوم الجماعة يكون لزوم السلطان في السمع والطاعة في غير معصية الله، ولزوم الجماعة أيضا في الثبات على منهج السلف الصالح بالقول والعمل أيضا.

 إذن صارت الجماعة معنا لها معنيان: جماعة علمية وجماعة عملية وكلاهما مطلوب؛ فالعلمية تلزم العلم الذي في الكتاب والسنة تلزمه ولو كنت وحدك؛ فلو كان الناس كلهم حاكمهم ومحكومهم والحكام والأمراء لو كانوا  على ضلال ما توافقهم على المنكر ولا على الضلال؛ يعني لو جئت في قرية أو في بلد أو في مدينة كلهم على عقيدة باطلة ينكرون أن الله يُرى في الآخرة وينكرون أن القرآن كلام الله لا يجوز أن تقول أنا مع الجماعة أوافقهم على قولتهم هذه،

نقول: لا أنت مع الجماعة تسمع وتطيع لكن في غير معصية الله وفي غير البدعة، فلا تشق العصا ولا تثير الفتنة لكن أيضًا لا توافقهم في باطلهم، وهكذا لو كان المسلم في بلد غير إسلامي والحاكم  كافر كما يعيش الآن مثلاً في أمريكا أو يعيش في الصين، فنقول له إذا تيسرت لك الهجرة إلى بلاد الإسلام فهذا متعين عليك، وإذا لم تتيسر لك الهجرة؛ عجزت عنها فتقيم شعائر الدين وتحفظ  دينك وتحفظ عقيدتك ولا يكون هناك لزوم جماعة الأبدان في حقك لأنك مع هذا الكافر لا سمع ولا طاعة له، لكن تلزم الجماعة  من جهة حضور الجُمع والجماعات والعيش مع المسلمين لأن هذا من باب يعني فعل ما يتيسر لك ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾

من خلال هذا نفهم الخطأ في تفسير أهل البدع والجماعات الضالة للفظ الجماعة؛ فالجماعات الضالة كل جماعة تقول جماعتنا هي التي تُقصد بالأحاديث فيقول لزوم الجماعة أي جماعتنا نحن، فتجد بعض الناس مثلا جماعة الإخوان أو جماعة حتى لو سموا أنفسهم  باسم صحيح  كما لو قالوا نحن جماعة أهل الحديث، هذه نحن لا نقصد جماعة أهل الحديث بالمعنى العام أو منهج السلف بالمعنى العام، لكن تجد مثلا عشرة أشخاص في المدينة الفلانية قالوا نحن جماعة أهل الحديث تعال معنا وإلا نزعل عليك ونغضب عليك إما تجيء معنا وإلا أنت خارج عن الجماعة. لا. الجماعة معناها أوسع من  أشخاص محددين في قرية أو في مدينة فقد يكون بعض هؤلاء الأشخاص ليسوا من أهل العلم وكيف تقول لي ألزم جماعتكم وأنتم مجموعة عندكم أخطاء ؟! فبعض الجماعات تلزم أتباعها؛ تقول لهم نحن لزوم الجماعة نحن المراد بهم الجماعة؛ أخرج معنا اجلس معنا نم معنا افعل معنا ما نقول تسمع وأطع ..  لا. وهذا مع الأسف  منتشر هذا.

أما التسميات التي يقال لها العهد ( ال) فيها للعهد مثل: أنا صليت مع الجماعة أنا صليت مع الجماعة (ال ) هنا للعهد يعني جماعة المسجد، جماعة المسجد وجماعة المدرسة وجماعة الجامعة وجماعة القرية أو جماعة الأسرة أو جماعة القبيلة (ال) هذا تسمى(ال) للعهد، ليس المراد هنا المصطلح العام  الذي في الأحاديث وهو "من فارق الجماعة قيد شبر" "من فارق الجماعة" أي: المسلمون تحت أمير أو سلطان واحد هذا المعنى، وليس المسلمون المجتمعون تحت يعني مجموعة حزبية ليس لهم شأن وليس لهم سلطان إنما خمسة، عشرة، مائة، ألف،  ألفين.. اجتمعوا على واحد وأمّروه؛ قالوا خلاص، نحن جماعة تعالوا. لا، هذا تفسير خاطئ. لهذا بعضهم يلزمون أصحابهم بمثل هذا؛ يلبّسون عليهم، حتى إن بعضهم يقول: لا،  ويأتي بأثر معروف عن عمر رضي الله عنه؛ عمر  رضي الله عنه اشتهر عنه أنه قال: " لا إسلام -وفي رواية لا إيمان- إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة -أو بإمارة- ولا إمارة إلا بسمع وطاعة" وكلامه صحيح؛ المراد هنا بالجماعة هي جماعة المسلمين كلهم، يعني لا يتحقق الإسلام ولا تقوم شعائر الإسلام ولا يظهر للناس الحج والجهاد والأشياء إلا إذا اجتمع المسلمون تحت أمير واحد أو على الأقل بلدانهم وأقاليمهم كل إقليم له سلطانه، أما إذا كان الناس بدون إمام والله ما يصلحون ولا تستقيم أمورهم؛ لا دين ولا دنيا، هذا معنى قوله: " لا إسلام إلا بجماعة ".

لكن بعض الأحزاب وبعض الجماعات أنا سمعت بعض الإخوانيين قديماً يقولون المراد مثل جماعتنا، ما يمكن أن يتحقق الإسلام إلا إذا انضممت إلى جماعتنا، هذا فهم خاطئ ليس هذا مراد عمر رضي الله عنه، هذا فهم خاطئ .

طيب أيضاً مما يتعلق بهذا أن ترك الجماعة هو الفرقة ولهذا أوجب النبي -صلى الله عليه وسلم-علينا أن نلزم جماعة المسلمين وإمامهم هذه الجماعة البدنية، وأوجب علينا أن نلزم طريقته -صلى الله عليه وسلم- «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» فقوله «كلها في النار» الفرق ستفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة، هذا تحذير شديد من مفارقة سنته -صلى الله عليه وسلم-. في اللفظ الآخر قال «وهم الجماعة» «من كان على مثل ما أنا عليه» وفي الحديث قال : «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين منصورين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى» وفي رواية قال : «وهم الجماعة».

فمن كان على منهج أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وسار على هذا المنهج فهو من جماعة المسلمين ولله الحمد السالمين من البدع .

وأما الفرقة والشذوذ فهذا خطر عظيم لأن (من شذ شذ في النار)، وأعظم الناس شذوذاً أهل البدع لما شذوا عن المنهج السلفي في بدعهم وعقائدهم وخرافاتهم . كذلك نقول في مسائل الفقه لا يشذ المسلم كما تقدم ولا يأخذ بقول ليس له إمام ولم يسبقه إليه عالم راسخ في العلم معروف بين أئمة السنة والعلم، فلا يشذ في مسائل الدين كالطهارة والصلاة والزكاة، ولا في أمور الفقه وكذلك لا يخالف الحق .

وأما الاختلاف فالاختلاف نوعان:

اختلاف محمود وسببه الاجتهاد في فهم النص مع بذل الوسع في تعظيم النص والتسليم له  لكن حصل الاختلاف في الفهم هذا الخلاف سائغ مثل اختلاف الفقهاء في أكل لحم الجذور هل ينقض الوضوء أم لا – أكل لحم البعير – وهذا الخلاف خلاف سائغ لا يعتبر من خالف فيه مبتدعاً  أو مفارقاً للجماعة إنما الخلاف غير السائغ هو ما كان في أمور العقيدة، أو كان الخلاف فيما صرحت النصوص به فيأتي يخالف النصوص الشرعية عمداً، مثال ذلك الطمأنينة في الصلاة، النبي -صلى الله عليه وسلم-قال : «اركع حتى تطمئن راكعاً واسجد حتى تطمئن ساجداً» ونحو ذلك، هذا حديث المسيء صلاته، فالنبي -صلى الله عليه وسلم-قال عن المنافق : «حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً» فيأتي بعض الناس فينقر صلاته ولا يطمئن في ركوعه ولا سجوده هل نقول هذا الخلاف لأنه يتبع القول الفلاني، لا هذا خلاف غير سائغ حتى لو أن هناك من قال بهذا، ليست العبرة بكل ما قيل وجمع الأقوال إنما العبرة بالدليل . ومن هنا نعرف الخطأ الكبير في القاعدة التي أسسها بعض المتأخرين وهى تُعزى إلى شخص قبل مائة سنة أو مائة وعشرين سنة، وهي قاعدة يقولون : " نجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعض فيما اختلفنا فيه " فهذه القاعدة غير صحيحة لأن الخلاف نوعان: خلاف سائغ له دليله، له حظه من النظر الشرعي ومبني على التمسك بأصول السنة والقواعد الشرعية في الفقه والاعتقاد ، هذا سائغ لا بأس .

النوع الثاني خلاف غير سائغ كالذي سببه الهوى أو مخالفة منهج أهل السنة وأصوله أو معارضة الأدلة الصريحة عمداً مع غير وجود مستند معه صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا الخلاف لا يقبل من صاحبه حتى لو قال في قول قيل لأن هذا خالف الوحي خالف الشريعة، فالسنة يجب تعظيمها والوحي يجب تعظيمه، هذا من الأشياء التي، لكن لو قال: نجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعض فيما اختلفنا فيه نقول : هذا لابد من قيود نجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا أو ينصح  بعضنا بعض قول ينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه هذا ماشي، وأيضاً ما هو مقدار الاتفاق، هل مثلاً يعني يوسعون الدائرة حتى يقولون اليهود والنصارى يؤمنون بخالق إذن نجتمع فيما اتفقنا عليه لا إنما المراد نجتمع فيما اتفقنا عليه أولاً ليس بحديث حتى نعظم هذه الجملة وليس بآية قرآنية حتى نجعلها حكماً ونحاول أن نعتذر لها ونُرقعها، هذا كلام قاله بعض الناس فنحن نجتمع مع المسلمين فيما أمرنا بالاجتماع به، في الصلاة وفي الجمعة وفي الجماعات وفي الجهاد وفي الحج ونجتمع مع المسلمين في محبة الدين وفي أركان الإسلام وأركان الإيمان والإحسان ونحو ذلك، ولا يعذر بعضنا بعضاً فيما خالف النص الشرعي الواضح، ولا يعذر بعضنا بعضاً بل ينصح بعضنا من أخطأ حتى يستقيم على الشريعة وهذا من الأشياء المهمة .

وأيضاً من مفارقة الجماعة ترك الصلاة مع المسلمين ترك الجمع والجماعات، هذا من المفارقة والخروج عن جماعة المسلمين نسأل الله العافية والسلامة

هذا ما تيسر في هذا الدرس، نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .